راعي وسط الظلام

راعي وسط الظلام ..

أصلوا ما من حقك تشيل
أفراحي مني
منو القال ليك بريدك
يلا يلا فارقني ..
يتغنى بها أيوب وهو يمتطي حماره الكسول جداً وهو في طريقه إلى المرعى ، يسوق أمامه جميع أغنام قريته في سرور وبهجه تطغى على بؤسه الدائم ، فجميع مشاكله تنعكس سلباً على حماره في شكل ضرب مبرح ..
صباحهم يبدأ باكراً عند كل يوم ، يضع جميع أمتعة اليوم في تلك الحمالات على ظهر الحمار ، فيسيران معاً والسخط متبادل بينهما برغم التوافق بين وضعيتهما البائسة القاتلة لكل أمل في النجاة …
أيوب وحماره يعيشان تحت سخط وتعنت مهيب ، فهم ضحايا لكمية من الأزمات التي تنخر في أوساط تلك المجتمعات البسيطة في سبل عيشها وأحلامها ، القابضة على جمر تلك التوهمات التي تحكم جميع مناحي الحياة …
عصيدة العيش ، سكر ، شاي ، جالون مغطى بخيش لزيادة برودة الماء والراديو ، هما متطلبات أيوب عند كل صباح لكي يتغلب على وحشية الوحدة التي تتخلل يومه وهو يرعى تلك الأغنام ، فجميع تطلعاته لا تتعدى ذلك …
شعره حالك السواد برغم مضاجعة تلك الشمس الحارقه ، عيناه متخفيه داخل وجهه العابس ، أسنانه بارزة كالمدافع وتتخلها فتحات كبيرة …
أيوب في نظر جميع أهل القرية مجرد أهبل وغير مكتمل العقل ، تصرفاته تدعم زعمهم الجائر ، وجوده وسط المجلس لا يعني شيء غير الضحك على تصرفاته التي يبتدعها حتى يكسب ودهم الزائف …
برغم قهر المجتمع له ، يعي أيوب تفرده ورجاحة عقله في كمية من القضايا التي يجهلها مواطني قريته ، لكن وضعيته في القرية كراعي أغنام فقط لا تدعم فكرة قبوله ، فهو محاط بكمية من القيود التي ترهق ذاته ولكنه يتغلب على كل ذلك بتناسيها …
تحريك مؤشر الراديو هو قمة الرفاهية له فيتنقل بسرور بين المحطات الإذاعية ، والسخط يبدو عليه عند قدوم نشرة الأخبار فيسرع لتغييرها حتى لا يفقد توازنه ويسقط من حماره ، فهو يكرهها لترهات وسخف السياسين وخداعهم ، ويمتعض من إفتراض الغباء في المستمع بنقل اجندة الحكام التي تدعم وجودهم الدائم على منصة الحكم ..
الموسيقى تحرك وجدان أيوب بصورة مذهله فتجعله كالدرويش الهائم في لحظات الذكر ، فالجميع في الأعراس كان ينتظر تابلوهات أيوب مع المغني فهو من يبتديء الرقص ومن يختمه ..
(…..)
جميع قصص أيوب العاطفية تحاك بالخفاة لعدم التوافق وغياب القبول لشخصه ، بإعتباره مجرد مهرج يمتطي ساحات الرقص في أعراس قريتهم ، فهو لم يفصح عن حبه لمحبوباته الكثر ، كل ما يقدر عليه هو التحديق والنظر فقط …
جميع محبوباته تنتهي ذكراهم بإنتهاء الأمل في كسب ودهن ، أو بزواجهن الباكر الذي يبغضه أيوب بشدة ، فعندما يتم تزويج أي بنت وهي صغيرة يغلي أيوب في دواخله كالبركان ، لانه كان شاهد على تلك الجريمة التي تمت في قريته ، جريمه كانت ضحيتها ماريا الجميلة ..
ماريا ذات الثلاثة عشر ربيعا كان الجميع يلاطفها ويفرح كثيرا عندما يراها تلعب وسط قريناتها ، أيوب كان ينتظر قدومها في الصباح الباكر وهي تقود الماعز حتى توصلها إلى القطيع الذي يرعاه هو ، فيبادلها بعض الكلمات وعن أجر الماعز وقدوم نهاية الشهر لدفع مستحقاته فتضحك وتخبره إنها ستكلم والدها بذلك عند قدوم نهاية الشهر ..
في صباح ذلك اليوم لم تأت ماريا إلي أيوب وأخوها هو من أتى بالماعز ، إندهش أيوب من ذلك وسأله :
أين ماريا اليوم ؟
أجابه الصغير :
ماريا لقد تمت خطبتها من قبل شيخ حسن !
وقع عليه الخبر كالصاعقة ، كيف لشيخ حسن أن يتزوج ماريا !
كيف لها أن تتحمل ذلك الرجل الستيني ، تبا لجهلهم الذي يقتل هذه الطفولة الجميلة ..
في صباح ذلك اليوم بكت القرية جميعها بسبب ذلك الخبر الذي قدم من مستشفى المدينة بموت ماريا خلال عملية الولادة ، عندها أنفجر أيوب غضباً وترك كل ما يشغله وأتى إلى القرية حتى يعطي ماريا بعض ما تستحق وهي خارج القرية إلى الأبد ..
فدخل مأتم العزاء والغضب يتطاير من عينيه وخطب فيهم خطبة للتاريخ ، فجميعهم ينظرون مذهولين من ذلك الجبروت الذي يتدفق من أيوب ، وهم يعرفون أيوب عندما يغضب لذا لم يقاطعه أحد اثناء كلامه …
وقف أمام الجميع وأطال النظر فيهم بحدة حتى انتبه اليه جميع أهل القرية من تواجدوا في صالون العزاء ثم بدأ خطبته :
(…..)
” الموت هو أن تعتقد أن ذكر الأغنام هو من يعتني بصغاره ، فوجود الذكر ليس بغاية للصغار في حضرة الأم …
من المؤسف أن تعتقد أن كل ما تراه حقيقة لتسقط ذلك على من هو أضعف منك ، وذلك عن طريق وصاية وهمية أنتجتها بعض الظروف التي تفتقد لمعنى حقيقي يبين ماهية وجودها ، لتجبره على العيش تحت وطاة وضعية لا يعي خباياها ، فهذه حرب لا يمتلك عتاد ليخوضها …
عندما نحدد مصير غيرنا يجب أن ندرس نواتج ذلك غيابياً ونضع أنفسنا في تلك الوضعية حتى لا يحصل ما لا يحمد عقباه …
أتدرون ما هو النفاق ؟
هو أن تعيش وأنت تخاف نظرة الجماعة لسبل حياتك وقراراتك ، وتبدأ في مجارأة ذلك بسطحية بغيضه حتى تخفي عنهم نقاط ضعفك ..
ما ذنب ماريا لكي تموت من الألم ؟
ذنبها إنها عاشت وسط هذا الغباء والجهل ، فجميعكم لم ينتبه لها وهي كتب لها الموت عندما تم تزويجها في هذا العمر ، تم زواجها وجراح ختانها لم تلتئم ، لم كل هذه الوحشيه ..
كل هذا من أجل العار الذي تخافونه ، من قال لكم أن الختان والزواج يبعد عنكم العار ، جهلكم هو العار يا سادة ، تصوراتكم عن وضعية المرأة كماكينة للإنجاب وتربية الأبناء هو العار أيضا ..
فليذهب الشرف الذي تدعونه إلى الجحيم ، إنكم تملأون تلك الجوامع عبثاً وتقدسون تلك العادات والخرافات أكثر من الدين الذي تعتقدونه ، إنكم في حوجه لتعريف مؤسسة الزواج ، الزواج ليس إنجاب قطيع من الأطفال ، إنكم بهذا تتناقلون الفقر بكل سهوله …
إمتلاك المال لا يعني أن لك الحق أن تضاجع كل من رمقتها عينك بحجة الزواج …
الزواج هو علاقة حميمة بين شريكين لهما القدرة على تحمل تبعاته ، وهو تكليل للحد الأدنى من التوافق بينهما ، ما دون ذلك هو مجرد عرف إجتماعي تتناقلونه ليروح ضحيته ماريا وأخريات على شاكلتها .. ”
صاح حاج أحمد بصوت جهور : كلامك ده ما فاهمينوا يا أيوب ، لكن علي بالطلاق تاني ما بنزوج بت وهي صغيرة ، وأي زول بعمل كده الا يشوف لي مكان تاني يسكن فيه ..
خرج أيوب وتركهم يهمسون لبعضهم ، دون أن يتجرأ احدهم على إعتراض كلامه …
عندها بدأ أيوب العزوف عن مجالسة أهل القرية وكل وقته ما بين مناداة غنمه وتلفونه الجديد الذي يحوي كمية من أغاني محمود عبد العزيز ، وكذلك أغاني الزنق فهو يهوى الموسيقى الصاخبة التي تحرك مشاعره وتجعله في حالة لا وعي تام …
وبدأت علاقته مع الشعر وأدمن الإستماع إلى أشعار حميد وكذلك عثمان بشرى ، فعرف عنه رفضه للوضع العام في قريته وتفشي التخلف والجهل وغياب تام للخدمات الأساسية التي تعونهم وسط هذه الصحاري…
عندها بدأ غضبه يزداد من حكومة المركز وأعوانهم في قراهم ، فهو كان من بين الحضور على الندوة التي أقامها الحزب الحاكم في قريتهم وكان يضحك من غباء مندوب الحزب وكذلك مواطني قريته ، وهو يخبرهم عن تلك الوعود الكاذبة وعن إنشغال حكومة المركز بالدفاع عن الوطن ، وإنهم سيعيدوا عجلة التنمية بعد القضاء على أعداء الدين والوطن ، أثناء حديث المندوب وتكبير وتهليل مواطني القرية صاح أيوب من منتصف الضجيج حتى صمت الجميع وسأل المندوب :
حضرة المحافظ الوطن بخش الجنة ولا النار ؟
عندها بدأ المحافظ بالتلكؤ والهمهمة ولزم عليه أن يرد حتى لا يفقد هيبته وسط الحضور ، ضحك المحافظ وقال بصوت جهور :
لكن الوطن ما عندو دين عشان يتحاسب ..
عندها ضحك أيوب بصوت جهور وترك الجميع وذهب ، دون أن يعرف أحد من الحضور سر هذه الضحكة التي أطلقها أيوب …
ذهب من الجمع وهو يمتعض من هذا السخف الذي يجتاح حياتهم في كل جوانبها ، كيف لهؤلاء أن يكبروا ويمجدوا من سلب حياتهم ، من سرق كل أحلامهم وتركهم للعيش تحت خط الفقر …
هل تقوم الديكتاتوريات على الفقراء أم الجهل ؟
سؤال يدور في مخيلته مراراً …
في ذات يوم وجد قطيع الغنم من غير أنيسه أيوب واختفى من القرية تماماً ، دون أن يخبر أحد أنه يريد ترك القرية وذهب الجميع للبحث عنه دون أن يجدوا أثر له غير رساله مكتوبه بخط يده على ظهر حماره :
مين الأداك حق إنك تمسك
قلم النجاة
وترفع سقف من تحت السماء
وتحجب رؤية نجوم كانت تهدي
في عتمة طرق الضياع …
مين أداك وهم الخلود
لتضعنا في مدن تسبح بحمدك
دين الله بنعرفوا ما هيلك…
حبيبتي ألم يخبروك بموت الوطن
وسط الظلام هارباً من ظلم
أولاد الحلال …
أولاد الحرام يحملونه إلى القبر
قهراً حباً الماً …
ذاتي في ذاتك مجرد حلم
حلمي الوطن بعاتي …

أيوب أبراهيم علي
راعي قطيعكم